سورة غافر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)}.
التفسير:
وإذ ينفضّ المجلس الذي ضمّ فرعون وآله، ومنهم الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه- إذ ينفض المجلس على تلك الحال التي اضطرب فيها الرأى، ودارت برءوس القوم فيها عواصف البلبلة والحيرة- لم يجد فرعون طريقا يحفظ به ناموس سلطانه، ويستر به الحال التي استولت عليه من الرهبة والفزع إلا أن يلقى بهذا الأمر الطائش، يتخبط به كما يتخبط الغريق بين الأمواج.
{وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ.. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى.. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً!}.
والأمر- كما ترى- هزل، ليس فيه شيء من الجدّ.. وإنما هو تكأة يتكىء بها فرعون على كرسىّ سلطانه الذي يكاد يسقط من فوقه! إذ كيف يبنى {هامان} صرحا يرتفع به إلى السماء؟ وفى كم من الزمن يتمّ بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعا، وكان محمولا على محمل الجدّ؟ وهل ينتظر فرعون بموسى هذا الزمن المتطاول حتى يتم بناء الصرح، ويصل به إلى أبواب السماء، ثم يطرقها، ويبحث عن إله موسى هناك؟ إنها مما حكات وتعلّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه في قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن {هامان} بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون في حينه بالامتثال والطاعة! وفى قول فرعون: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً} ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول.. فلقد أصدر حكمه على هذا الأمر الذي يريد التحقق منه، وهو أن موسى كاذب فيما يدعيه من أن له إلها في عالم غير هذا العالم الأرضى الذي تفرد فيه فرعون بالألوهية! فما الداعي إلى التحقق من أمر واضح الكذب؟
وقوله تعالى: {وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ} بيان للحال التي انتهى إليها أمر فرعون، وأنه مضى في طريق الضلال إلى غايته.. فقد زين له بضلاله، واستكباره، سوء عمله هذا، فرآه حسنا، فمضى فيه، وصد عن سبيل اللّه، بما يحمل في كيانه من أباطيل وضلالات. {وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ} الذي يكيد به للمؤمنين {إلا في تباب} أي في فساد، وضياع.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ} لقد كشف الرجل المؤمن عن حاله، وأعلن ما كان يخفيه من إيمانه، وخرج عن سلطان فرعون، وانطلق يلقى الناس مواجهة بالدين الذي دان به، ويحاجّهم بمنطق الحق الذي استقام عليه.
وهذه المقولات التي يقولها الرجل المؤمن، هى خارج هذا المجلس الذي ضمه وفرعون والملأ من قبل.. إنه امتداد إلى خارج إلى هذا المجلس، حيث يلقاه الناس في كل مجتمع وناد.
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ} هو مقولة من مقولات الرجل المؤمن، يعرض بها موازين الناس عند الإله.
الذي يدعوهم إليه.. إنه إله عادل، حكيم، عالم بكل شىء.. {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها}.
إن عمله هذا مردود عليه، ومجزىّ به، مثقالا بمثقال {وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ} فالمحسن- من ذكر أو أنثى- لا يلقى جزاء الحسنة بمثلها وحسب، بل إنه يضاعف له الجزاء الحسن أضعافا مضاعفة، بلا حساب.
فالجنة التي يجزى بها أهل الإحسان، لا يقدّر لها ثمن، ولا يبلغها إحسان محسن، ولكنها فضل من فضل اللّه، وإحسان من إحسانه، إلى من أحسنوا واتقوا، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وليس بين المحب والمحبوب حساب! وفى قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إشارة إلى أن العمل الصالح لا يقبل، ولا يدخل في الأعمال الصالحة- إلا مع الإيمان باللّه.
قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} مناظرة بين موقف وموقف، ودعوة دعوة.. موقف الرجل المؤمن من قومه، وموقفهم منه.
إنه يدعوهم إلى الخلاص والنجاة من نقمة اللّه في الدنيا، وعذابه في الآخرة.
وهم يدعونه إلى نقمة اللّه في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة.. إنهم يدعونه ليكفر باللّه الواحد الأحد، وأن يعبد مع اللّه آلهة أخرى لا يعلم لها حقيقة يطمئن إليها عقله، ويستسيغها منطقة.. وهو يدعوهم إلى إله يقوم على هذا الوجود، ويمسك كل ذرة منه، حفظا وعلما.. فهو سبحانه- {العزيز} الذي تذل لعزته الجبابرة.. {الغفار} الذي يغفر ذنوب المسيئين، ويقبل توبتهم، إذا هم رجعوا إليه، ووجهوا وجههم له.
فهل تستوى دعوة ودعوة؟ وهل يستوى الضلال والهدى؟
وقد جاء النظم القرآنى على غير النسق الذي يقتضيه النظم الكلامى، في تقديرنا.. إذ بدأ الرجل المؤمن بما يدعوهم إليه: {أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.
وكان مقتضى النظم الكلامى أن يقول بعد هذا: وأدعوكم إلى العزيز الغفار، وتدعوننى لأكفر باللّه وأشرك به ما ليس لى به علم.. ولكن جاء النظم القرآنى على تلك الصورة المعجزة، التي جمعت بين دعوتيهم في نسق واحد هكذا: {تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} ثم كان من هذه الصورة المعجزة من النظم- أن بدئت وختمت بالدعوة التي يدعو بها المؤمن إلى الإيمان.. هكذا: أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ.. وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.
ثم كان منها- كذلك- أن سوّت بينه وبينهم، فقدّم نفسه أولا، ثم قدّمهم هم ثانيا.
هكذا: {أدعوكم إلى النجاة.. وتدعوننى إلى النار تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} هذا ما ينكشف من هذا النظم للنظرة الأولى.. ووراء هذه النظرة نظرات ومعطيات.. لا حدود لها.
قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ} هو تعقيب من الرجل المؤمن، على هذا الموقف الذي بينه وبين قومه.
إن ما يدعونه إلى عبادته من آلهتهم: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ}.
إنه لا يسمع دعاء داع ولا يستجيب له، سواء أكان ذلك في هذه الدنيا، أو في الآخرة.. وأصل لا جرم من الجرم.. وهو بهذا التركيب، للنهى: أي لا تجرموا، مثل قوله تعالى: {لا مِساسَ} ومثل الحديث الشريف: «لا ضرر ولاضرار».
وقوله تعالى: {وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ} أي مرجع جميع المخلوقات إلى اللّه، فهو المالك لها وحده، يبسطها ويقبضها، وينشرها ويطويها.. وأن الناس جميعا سيرجعون إلى اللّه، للحساب والجزاء في الآخرة.. {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ}.
حيث يلقون جزاء كفرهم، وضلالهم، وإسرافهم على أنفسهم.
هذا، ولم يذكر هنا جزاء المحسنين، وهو الفوز بالجنة ونعيمها.. وذلك لأن الموقف موقف إنقاذ، وتخليص، لهؤلاء الهلكى من هذا الضلال الذي هم فيه.. فإذا خلصوا من النار، فذلك كسب عظيم لهم.. ثم يكون لهم بعد هذا أن يتطلعوا إلى المنزل الذي ينزلونه، بعد أن خلصوا بجلدهم من هذا البلاء المحيط بهم.. إن الذي تعلق به النار، لا يعنيه شيء أكثر من أن يتخلص من هذا الثوب الذي أمسكت به النار، وليس يعنيه في شيء أن يفكر في الثوب الذي يلبسه بعد أن ينزع هذا الثوب عنه، ويتركه وقودا للنار تأكله.. إن دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} [185 آل عمران] قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ}.
أي ستعلمون علم اليقين ما أحدثكم به، وما أدعوكم إليه من الإيمان باللّه الواحد الغفار، وما أحذركم به من عذابه يوم القيامة، إذا أنتم لم ترجعوا إلى اللّه، وتدعوا عبادة ما تعبدون من آلهة، ليس لها حول ولا طول، في الدنيا ولا في الآخرة.. إنكم ستذكرون هذا، وترونه عيانا، يوم القيامة، يوم لا ينفع تذكّر، ولا يغنى علم.
وقوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} هو خاتمة المطاف. فيما بينه وبين قومه، لقد دعاهم إلى الهدى، وأراهم طريق النجاة، فإن استجابوا له، واتبعوا سبيله نجوا معه، وإن هم أبوا أن ينزعوا عما هم فيه، تركهم وشأنهم، وأخذ هو طريقه الذي استقام عليه، مفوضا أمره إنى اللّه، مسلما له وجهه، مستعينا به وحده، فهو الذي يكفيه، ويحميه {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} يعلم من هم أولياؤه، ومنهم هم أعداؤه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [40: الحج].
قوله تعالى: {فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} الفاء للتعقيب، أي أنه عقب قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} استجاب اللّه له، فوقاه وحفظه مما كانوا يدبرون له من كيد عظيم، بعد أن أعلن إيمانه، وتحدّى فرعون، وخرج عن سلطانه، منحازا إلى جبهة موسى.
وقوله تعالى: {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} أي نزل بفرعون وآله سوء العذاب، فقد وجب عليهم وهم في الدنيا، هذا العذاب الذي سينزل بهم في الآخرة.. فهو حكم معلّق في أعناقهم، وهم في هذه الدنيا قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} هو بيان لسوء العذاب الذي حاق بآل فرعون، وهو النار.
وقوله تعالى: {يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي يعرضون على هذه النار في الغدو، أي أول النهار، وفى العشى، أي آخر النهار.. وهذا العرض على النار هو في حياتهم البرزخية، الواقعة بين الموت والبعث.. فهم في هذه الفترة يفزّعون بالنار التي سيصيرون إليها يوم القيامة، فيردونها صبحا وعشيا، ليروا بأعينهم المنزل الذي سينزلونه يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} أي فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى تلك النار التي كانوا يغدون عليها ويروحون.
وليست النار فحسب، بل الدرك الأسفل منها، حيث يلقون أشد وأنكى ما يلقى أهل النار من عذاب.
بقي هنا سؤال، وهو: هل كان مؤمن آل فرعون نبيا مرسلا من عند اللّه إلى فرعون؟
وليس بالمستبعد أن يكون نبيا لم يذكره القرآن في عداد الأنبياء الذين ذكرهم اللّه، فكثير من الأنبياء لم يذكرهم اللّه سبحانه في القرآن كما يقول سبحانه {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [164: النساء] ولكن يرجّح عندنا أنه غير رسول، إذ لو كان نبيا ذا رسالة، لكان بين يديه حجة من اللّه على رسالته إلى من أرسل إليهم، ولم يذكر القرآن أن بين يديه تلك الحجة التي يحاجّ بها فرعون.. ومن جهة أخرى، فإنه كان يكتم إيمانه في مرحلة من مراحل دعوته.. والنبي إنما يرى الناس نبوته ممثلة في إيمانه بالدين الذي يدعو إليه، قبل أن يدعو أحدا إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [11- 12 الزمر] ومؤمن آل فرعون، إن لم يكن نبيا رسولا، فهو داعية من دعاة اللّه إلى الحق، وهو صوت العقل، وحجته، التي تقوم إلى جانب المعجزة المادية وحجتها.
فلقد جاء موسى إلى فرعون بآيات مادية قاهرة، كان من شأنه أن يؤمن بها إيمان قهر وإذعان، إن لم يؤمن بها إيمان عقل ومنطق.. فلما لم يؤمن بها هذا الإيمان أو ذاك، جاءه من يدعوه بالعقل والمنطق، فلم يرض لعقله ومنطقه أن يلتقى بعقل أو منطق! ومن هنا قامت عليه الحجة من كل وجه، فكان كفره أغلظ الكفر، وكان عذابه أشد العذاب.
وننظر في رسالة موسى إلى فرعون، فنجد أن موسى هو صاحب الدعوة والقائم عليها، وأن هارون، كان وزيرا له، أي سندا ومعينا، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً} [35: الفرقان] ويقول سبحانه: {كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [15- 16 المزمل].
فموسى عليه السلام، رسول، وهارون- عليه السلام- نبى، يقوم ردءا لهذا الرسول وسندا.. ثم يقوم من وراء الرسول والنبي، الممثلين لدعوة السماء- ثالث، يمثّل دعوة الإنسان وما أودع الخالق فيه من فطرة، وعقل.. وبهذا تلتقى السماء بالأرض، ويرتفع من الأرض هذا الإنسان، الذي يمثّل كرامة الإنسان، ويحتفظ للإنسانية بمكانها فوق عالم الحيوان..! وهذا يعنى أن الإنسانية قادرة على أن تلد الهداة والمصلحين الذين يمكن أن ترى عقولهم نور الحق، وتستضىء به، وتسير على ضوئه، وتتعرف إلى اللّه الواحد الأحد، بمنقطع من دعوات السماء، ورسالات الرسل!.
وهنا نشير إلى ما ذكرناه من قبل في سورة يس عند تفسير قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}.


{وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ}.
هو عرض لأهل النار جميعا، وما يقع بين التابعين والمتبوعين، من ملاحاة، ومخاصمة.
وفى هذا الموقف من مواقف الملاحاة، يسأل التابعون سادتهم ورؤساءهم الذين كانوا أصحاب الكلمة عليهم في الدنيا- يسألونهم أن يخففوا عنهم شيئا من هذا العذاب الذي هم فيه.. فقد كان هؤلاء السادة مفزعهم في الدنيا، يفزعون إليهم، ويحمون ضعفهم بقوتهم.. إنهم أقوى منهم قوة، وأقدر على احتمال الثقال من الأمور.. وهذه جهنم وأهوالها،.
فهل يجد الضعفاء في قوة الأقوياء، معينا يحمل عنهم بعض ما حملوا؟.
{قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ}.
وهل لأحد بهذا البلاء يدان؟ إن قوة الأقوياء لا تقوم بحمل بعض ما ألقى عليها من عذاب، فهل هم في حاجة إلى مزيد منه؟.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} إشارة إلى أن كلّا من التابعين والمتبوعين قد لقى الجزاء الذي يستحق.. فالذى حكم بينهم هو اللّه سبحانه وتعالى، وقضاؤه الفصل، وحكمه العدل.. وأنه إذا كان المتبوعون قد غرروا بأتباعهم، وساقوهم سوقا إلى الكفر، فإنهم قد نالوا ما يستحقون من عذاب فوق ما نال أتباعهم، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} [13: العنكبوت].
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ}.
وإذ ييأس أهل النار من أن يغنى بعضهم عن بعض شيئا، فإنهم يمدون أيديهم إلى خزنة جهنم، وإلى حراس هذا السجن الجهنمى المطبق عليهم، يسألونهم أن يدعوا ربهم، ويسألوه تخفيف العذاب عنهم، ولو يوما واحدا، ليجدوا نسمة من نسمة الحياة، تدخل إلى صدورهم المكظومة بلهيب السعير!.
{قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا بَلى! قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
ويلقى خزنة جهنم أصحاب النار بهذا السؤال، ردّا على طلبهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ}؟ أو لم يبعث اللّه فيكم رسلا؟ وألم يحمل إليكم الرسل بين أيديهم آيات بينات من عند اللّه، تكشف لكم الطريق إلى الحق والهدى؟ {قالوا بلى!} قد جاءنا رسل ربنا بالحق!.
وإذ يتلقى خزنة جهنم هذا الاعتراف من أفواههم، والإقرار على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين- يقولون لهم في استهزاء وسخرية: لم لا تدعون أنتم؟ فادعوا إن كان ينفعكم الدعاء، ويستجاب لكم بما تدعون.
{فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
وإذ يلقى الكافرون الخذلان في جهنم، فلم يقبل منهم قول، ولم يستجب لهم دعاء- فإن شأن رسل اللّه، والمؤمنين باللّه، غير هذا.. إنهم أهل كرامة على اللّه في الدنيا وفى الآخرة.. إنه سبحانه وليّهم في الدنيا وفى الآخرة.. ففى الدنيا، يؤيدهم بنصره، وفى الآخرة، يؤمّنهم من فزع هذا اليوم، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه في جنات لهم فيها نعيم مقيم.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} أي يوم القيامة، حيث يقوم على الناس من يؤدى شهادته عليهم، من رسل اللّه، ومن جوارحهم التي تقوم شاهدة عليهم.


{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ}.
هو استكمال لقصة موسى، ولرسالته كرسول من عند اللّه.. فقد ذكرت الآيات السابقة رسالة موسى إلى فرعون وهامان وقارون، وهى جزء من رسالته إلى بنى إسرائيل، فلما انتهت قصة موسى مع فرعون، اقتضى المقام الإشارة إلى رسالة موسى، وهى أنها لبنى إسرائيل في عمومها.
والهدى الذي آتاه اللّه موسى، هو التوراة، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ} [44: المائدة].
وفى قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ} إشارة إلى أن بنى إسرائيل لم يرثوا هذا الهدى الذي تحمله التوراة، والذي حمله إليهم موسى فيها.
وإنما ورثوا الكتاب، أي هذه الكلمات المكتوبة في كتاب..!
قوله تعالى: {هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
أي أن هذا الكتاب، هو هدى وذكرى لمن يطلب الهدى، وينتفع به.. وفى هذا تعريض ببني إسرائيل، وأنهم لم يستقيموا على ما في هذا الكتاب من هدى، ولم يذكروا ما فيه من وصايا وعظات.
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ}.
الخطاب هو من اللّه سبحانه، لنبيه الكريم- صلوات اللّه وسلامه عليه- ومناسبة هذا الخطاب هنا، هو ما جاء في الآيات السابقة من موقف فرعون، ومكابرته، وعناده، وتحديه لآيات اللّه.. وهو نفس الموقف الذي يقفه المشركون من دعوة النبي، ومن آيات اللّه يتلوها عليهم، وإن النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليلقى من عنادهم واستكبارهم ما ينوء به كاهله، وتضيق به نفسه.. فكان هذا الخطاب الكريم له من ربه، مددا من أمداد السماء، يجد في ظله أرواح الطمأنينة والرضا.
ويحمل إليه هذا الخطاب الكريم أكثر من دعوة.
فأولا: دعوته- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى أن يصبر لحكم ربه، وينتظر ما يقضى به اللّه سبحانه وتعالى فيما بينه وبين قومه.. وفى هذا إشارة إلى ما يلقى النبىّ من قومه من عنت وضيق، وأنه لا بد أن يقيم أمره على الصبر، حتى يستطيع أنه يمضى بدعوته إلى غايتها.
ثم إن مع هذه الدعوة إلى الصبر، وما يحمل النبىّ الكريم من أعبائه الثقال- فقد حملت معها من ألطاف اللّه سبحانه، ما يشدّ عزم النبىّ، ويثبت خطوه على طريق الصبر الطويل، فهو على موعد مع نصر اللّه: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ووعد اللّه هو ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ}.
وثانيا: دعوة النبىّ إلى أن يستغفر ربه لذنبه.. {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
وهنا سؤال: وهل للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- ذنوب؟ أو بمعنى آخر هل يتفق أن يكون نبيّا ويذنب؟
والجواب، أن النبي- أي نبى- تقع منه ذنوب، ومع هذا فإن تلك الذنوب لا تنزل من قدره عند ربه، ولا تدخل على نبوّته ضيما.
وإذا قلنا إن النبي تقع منه ذنوب، فذلك مما يقرره القرآن في قوله:
{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
فهذا صريح في أن للنبىّ ذنوبا، يستغفر ربه لها، ويطلب منه مغفرتها له.
على أن الذي ينبغى أن يكون مفهوما في هذا المقام، هو أن ذنوب الأنبياء من الصغائر، واللّمم، المعفوّ عنه بالنسبة لغير الأنبياء، ولكنها تعتبر ذنوبا في مقام الأنبياء.. فالصغيرة من النبي كبيرة، وما لا يعد ذنبا عند بعض الناس هو ذنب عند آخرين.. فالذنب إنما يقاس بالنسبة لقدر من يقع منه.. فيكبر أو يصغر بحسب قدر مرتكبه.
والرسول الكريم- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو صفوة خلق اللّه، وأقربهم إليه، تحسب عليه ذنوب قد لا تعدّ ذنوبا على بعض الأنبياء.. فهم- صلوات اللّه وسلامه عليهم- درجات، وهم في درجاتهم العالية فوق الناس جميعا.
وسؤال آخر.. ما الذنوب التي يستغفر لها النبي ربه، وقد غفر اللّه له سبحانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
والجواب أن غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، هو وعد من اللّه سبحانه وتعالى، كما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}.
وهذا الوعد وإن يكن واقعا محققا من غير شك، فإن الأمر بالاستغفار للذنب، أمر مطلوب من النبي، وهو واقع محقق كذلك.
وإذن فغفران الذنوب للنبى- ما تقدم منها وما تأخر- مرتبط باستغفاره لذنوبه، واستغفاره لذنوبه واقع محقق منه، فيكون غفران ذنوبه واقعا محققا كذلك..! وإذن لا تعارض بين الوعد المحقق بغفران ذنوب النبي- ما تقدم منها وما تأخر- وبين أمره باستغفاره لذنوبه.
هذا، والإشارة إلى أن للنبى ذنوبا، مطلوبا منه الاستغفار لها- يشعر بأن الإنسان مهما بلغ من الكمال، فلن يتخلص من الجلد البشرى الذي يلبسه.. فهو إنسان قبل كل شىء، وكماله البشرى هو محصور في هذا الحد لا يتجاوزه، فلا يكون من عالم الملائكة بحال أبدا، والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
لم يستثن الرسول الكريم في هذا أحدا من أبناء آدم.. والأنبياء من أولاد آدم بلا شك، وإن كانوا الصفوة المتخيرة من بين هؤلاء الأبناء، وإن كان رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- صفوة هؤلاء الصفوة!! ولنذكر هنا في هذا المقام، أن ما يحسب من ذنوب للمصطفين من عباد اللّه، هو مما يعد من حسنات غيرهم، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثالثا: دعوته- صلى اللّه عليه وسلم- أن يسبح بحمد ربه بالعشيّ والإبكار، أي أول الليل، وبواكير النهار.. أي قبل أن تطلع الشمس.
وليس ذكر هذين الوقتين حصرا لتسبيح الرسول ربّه فيهما، فهو صلوات اللّه وسلامه عليه- على ذكر دائم لربه، مسبحا، وحامدا، ومستغفرا.. وإنما خصّ هذان الوقتان بالذكر، لأنهما أثقل وقتين، يشق على النفس فيهما العمل، وتعرض فيهما الغفلة، حيث يستقبل الإنسان أول الليل بالخلود إلى الراحة، وإعطاء الجسد حاجته من الليل، وحيث يكون الإنسان في أواخر الليل وأوائل النهار مستغرقا في سكونه وراحته، فيثقل عليه أن ينخلع عن تلك الحال.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا} [6: المزمل].
ومن جهة أخرى، فإن حمد اللّه في هذين الوقتين- وقد خلت النفس من شواغل الحياة ومن الاتصال بالعالم الخارجي- يجد فيهما القلب طمأنينته وسكينته فيتجه بوجوده كله إلى اللّه.
وهذا ما يعطى للذكر في هذه الأوقات طعما لا يجده الذاكر في غيرها، حيث تكثر الشواغل والمعوقات.. ومن هنا كان الليل خلوة العابدين، ومسبح المسبحين، وملتقى العاشقين.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} هو خطاب للمشركين، بعد خطاب النبي.. وهو تهديد وعيد لهم، وأنهم لن يبلغوا شيئا مما يريدون به النبي ودعوته من سوء.. إذ أن اللّه سبحانه وتعالى سيقضى بينهم وبين النبي، وسيكون هذا القضاء إدانة لهم، وخذلانا لجمعهم، على حين يكون نصرا للنبى، وللمؤمنين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في الآية السابقة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}.
وقوله تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ}.
{إن} هنا نافية، بمعنى {ما} والكبر الذي في صدور المشركين: هو هذا الغرور الذي زينه الشيطان لهم، وأنهم على الحق، وأن الغلبة آخر الأمر لهم وفى هذا يقول سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ} [48: الأنفال].. فهذا الكبر الذي يملأ صدورهم، ما هو إلا دخان من الباطل، وإنهم لن يبلغوا به ما يطمعهم فيه من آمال.
فالضمير في {بالغيه} يعود إلى الكبر، بمعنى أنهم لن يبلغوا ما ينطوى عليه هذا الكبر من أمانىّ وآمال..!
وقوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} دعوة إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، أن يلقى كبر هؤلاء المتكبرين، وتطاول هؤلاء المتطاولين المدلّين بجمعهم، المغرورين بقوتهم- أن يلقى ذلك منهم باللّجأ إلى اللّه، واللّياذ بقوته، فهو سبحانه {السميع} الذي يسمع للنبى ما يدعو به ويستجيب له، وهو {البصير} الذي يرى أين تنزل مواقع رحمته وإحسانه، وأين تقع صواعق نقمه وبلائه.
قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى، أن الآية السابقة، أشارت إلى ما يملأ صدور المشركين من كبر وغرور واستعلاء، وأنهم يحسبون بما ملكوا من كثرة في المال والرجال- أنهم لن يغلبوا.. فجاء قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ليريهم أنهم، وإن كانوا- كما يرون في أنفسهم- أصحاب قوة وبأس، فإن قوتهم وبأسهم لا يغنيان عنهم من اللّه شيئا، ولا يردّان عنهم بأسه إذا جاءهم.. فأين هم من الناس؟ وأين الناس من السموات والأرض؟ إن كل ذلك من خلق اللّه، وفى قبضة اللّه.. فهل من خلق هذا الوجود، وقام بسلطانه عليه، يعجزه قهر هؤلاء المتكبرين، وإذلالهم والتنكيل بهم؟
وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى جهل هؤلاء المشركين، وغيرهم من الضالين، بقدرة اللّه وسلطانه القائم على كل شىء.. وإنهم ما استعظموا ما هم فيه من قوة إلا عن جهل بقدرة اللّه، بل وعن جهل بقدرة مخلوقات اللّه، التي إذا وضعوا أنفسهم إزاءها كانوا أشبه بالذرّ أو النمل تحت سفح جبل شامخ..!
قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ} هو تعقيب على قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وذلك أنه إذا كان أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق التي تكشف لهم عن قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وقوة سلطانه القائم على هذا الوجود- فإن بعضا من الناس- وهم أقلهم- يعلم من جلال اللّه، وعظمته، وقدرته، ما يملأ القلب هدى وإيمانا.. ومن هنا يختلف الناس، إيمانا وكفرا، وهدى وضلالا، وإحسانا وإساءة. وإنه كما لا يستوى الأعمى والبصير، كذلك لا يستوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كفروا وعملوا السيئات.. إن الاختلاف بينهما واضح لا يحتاج إلى بيان.
وقد جاء النظم القرآنى على نسق يخالف ما يجىء عليه النظم الكلامى.
فلم يلتزم القرآن الترتيب الذي يردّ الإعجاز على الصدور- كما يقول أهل البلاغة- إذ كان من مقتضى هذا أن يجىء النظم هكذا: وما يستوى الأعمى والبصير، ولا المسيء والمحسن.. ولكن جاء النظم القرآنى كما ترى.. فقدّم الأعمى على البصير، ثم عاد فقدم المحسن على المسيء فلم تقع بذلك المقابلة المطلوبة عند علماء البلاغة حيث يقتضى النظم عندهم، أن يقدّم المسيء على المحسن، ليقابل المسيء الأعمى، والمحسن البصير.
وهذا التدبير من النظم القرآنى يخفى وراءه أسرارا، ولطائف، هى من بعض الدلائل على إعجازه.
فمن بعض هذه الأسرار هنا، هو أن القرآن قد جمع بين البصير، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى لكأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الامتداد الطبيعي لهذا البصير.. {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.
فهذا هو أصل القضية: الأعمى والبصير.. ثم مع البصير كان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنهما طبيعة واحدة.. إذ قلّ أن تكون بصيرة لا يتبعها إيمان وعمل صالح.. وهذا هو السر في التعبير بالبصير دون المبصر.
أما الأعمى، فقد يكون أعمى عين، فهو من جهة النظر لا يستوى مع المبصر.. وقد يكون أعمى قلب، فلا يهتدى إلى هدى.. وهو من هذه الجهة لا يستوى مع صاحب البصيرة.
ولهذا لم يقترن المسيء بالأعمى، ولم يقابله مقابلة توافق، وتوازن.. إذ ليس مع كل عمى إساءة، وإنما تكون الإساءة مع عمى البصيرة.. ومن هنا جاء النفي بعدم التسوية واقعا على المسيء: {وَلَا الْمُسِي ءُ} وكأن القضية من وجهة نظر أخرى هى هكذا: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ}.
وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ} أي قليل منكم أيها الناس من يتذكر ويعقل هذه الأمثال.. وقليل تذكّر من يتذكر منكم، إذ النسيان غالب عليكم.
قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} وإذا كانت القضية قضية تفرقة بين المؤمنين ذوى البصائر، والكافرين الذين أصمهم اللّه وأعمى أبصارهم، وإذ كان هناك مؤمنون وكافرون- فقد حسن أن تعرض هذه الحقيقة التي هى المحكّ الذي يعرف به إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وتلك القضية، هى قضية البعث والحساب والجزاء.. فمن آمن باليوم الآخر. فهو المؤمن حقا، لأنه لا يؤمن من يؤمن باليوم الآخر إلا إذا كان مؤمنا باللّه إيمانا خالصا، مبرّأ من كل شرك.. ومن كفر بالآخرة، فهو كافر باللّه، أو مشرك به.
ومن هنا، جاء هذا الإعلان في قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها} ليكون في ذلك اختبار لإيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. فمن تقبّل هذه الحقيقة، وصدّقها، واستيقن بها، فهو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن كذب بها، أو شكّ فيها، فهو من الضالين المسيئين.
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} هو بيان لما ينكشف عنه امتحان الناس بهذا الإعلان، وبتصديقهم به، أو تكذيبهم.. وقد كشف هذا الامتحان عن أن أكثر الناس لا يؤمنون، لأن أكثر الناس كذلك لا يعلمون ولا يتذكرون.. كما يقول تعالى في الآية السابقة: {قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5